بسم الله الرحمن
الرحيم
مرحلة الخوف من الله
قال الله تعالى (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون)،
وقال سبحانه (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب
من المحسنين)، وقال تعالى (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي
المأوى)، وقال عليه الصلاة والسلام (من خاف اللهَ خافَه كلُّ شئ، ومن لم يخف الله
خوَّفه الله تعالى من كل شئ)، وفي الآثار الشريفة (رأس الحكمة مخافة الله)، وقال
عليه الصلاة والسلام (قال الله تعالى: وعِزَّتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا
أجمع له أمنين، فإذا أمِنَني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا
أمنته يوم القيامة).
وقال شيخ مشايخنا الإمام (السيد أحمد الرفاعي) رضي
الله عنه: الخوف سوط الله، يقوِّم به نفساً تعوَّدت سوء الأدب. ثم قال: فالعاقل
يخاف قبل أن يخاف، ويتأدب قبل أن يؤدَب، فلن يحرق شهوات النفس ويزيل آثار آفاتها
إلا الخوف.
وقال العارف بالله ذو النون المصري رضي الله عنه: لا يُسقى
المحب كأس المحبة إلا من بعد أن ينضج قلبه بالخوف.
والخائفون على أقسام،
منهم من يخاف منه تعالى على دنياه، ومنهم مَن يخاف منه لأجل آخرته، ومنهم مَن يخاف
لمعرفته بعظمته سبحانه وقدرته وكبريائه وجماله وجلاله وسائر صفاته. وهذه أشرف
الأقسام؛ قال تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاء)(فاطر28)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا أخْوَفُكُم لله
تعالى)، وقال شيخ وقته سهل أبو محمد التستري رضي الله عنه: المريد يخاف أن يبتلى
بالمعاصي، والعارف يخاف أن يبتلى بالقطع، وذلك لعلمه بسرعة تقلب القلب.
قلت: قال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن
يقول (يا مُقلِّب القلوب، ثبت قلبي على دينك)، فقلت: يا نبي الله! آمنا بك وبما جئت
به، فهل يُخاف علينا؟ قال (نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها
كيف يشاء)، وهذا من قبيل تمثيل المعاني بالصور، فتدبر، والمعنى أن القلوب بين إصبعي
القضاء والقدر.
ومن أقسام الخوف الشريفة الكاملة، خوف الصِدِّيقين، وفيه
محاسبة النفس على كل نفَس، ومراقبة الرقيب في كل وقت، والورع عن الإقدام على
الشُبُهات من كل شئ، ومن أهمها الخوض بالعلوم بغير يقين، والعمل بغير فقه، وسجن
اللسان من أن يُدخِل في دين الله ما لم يذكره تعالى لنبيه في كتابه، ولم يشرعه
رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولم ينطق به خزائن الشرع الأئمة من السلف رضوان
الله تعالى عليهم أجمعين.
ومنها الخوف على الإيمان، قال يحيى الرازي قدس
الله روحه: إن الخوف على الإيمان علامة الغبطة بدوام وجوده، وإن الذين يُخشى عليهم،
والعياذ بالله تعالى من سوء الخاتمة ثلاث طوائف: الأولى:- أهل البدع والزيغ في
الدين، الذين يُحدِثون في دين الله من الأقوال والأفعال ما لم يكن منه. والثانية:-
أهل الدعوى، الذين يرون أنفسهم وأعمالهم، ويظنون الخيرية على الخلق بأعمالهم.
والثالثة:- المتجاهرون بالفسق والفجور واتباع الهوى وطاعة الشيطان، الذين يرون
أتباع الشيطان أحب إليهم من أتباع كتاب الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن أقسام الخوفِ، الخوفُ من قسوة القلب وغفلته، فإن القلب إذا طمَّته
القسوة والغفلة قاد صاحبه إلى ظلم العباد، واحتقار الباقيات الصالحات، والغرور
بالفانيات، وأهان الحق، وأحب الباطل وأصحابه، وعدا على الله تعالى وآياته وكلماته،
وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ترى البعض يبكون وقلوبهم أقسى من الحجارة،
فإذا بكت العين وقسا القلب، دلَّ ذلك على النفاق، ومتى رأيت العبد لا يزيده بكاؤه
إلا كِبراً وعجباً وظُلماً وقسوةً وغفلة ورغبةً في الدنيا، فاعلم أن بكاءَه كان
تصنُعاً وزورا.
وجاء في الخبر في أن بكاء عثمان في ساقيه، يعني أنه طويل
القيام، كثير التهجد والتلاوة في الليل، وجاء في عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه
إن لم تبكِ عيناه فقد بكى قلبه، وإذا جمع المرءُ بين بكاء العين وخشوع القلب وذلة
السر وخضوعه لله تعالى فقد استكمل الحال المحمدي الأتم، قال تعالى (ويخرون للأذقان
يبكون ويزيدهم خشوعا).