إثابة السابقين بجنات
النعيم
{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ(13)وَقَلِيلٌ مِنَ
الآخِرِينَ(14)عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ(15)مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا
مُتَقَابِلِينَ(16)يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ(17)بِأَكْوَابٍ
وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ(18)لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا
يُنزِفُونَ(19)وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ(20)وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا
يَشْتَهُونَ(21)وَحُورٌ عِينٌ(22)كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ(23)جَزَاءً
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24)لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا
تَأْثِيمًا(25)إِلا قِيلاً سَلامًا سَلامًا(26)}
{ثُلَّةٌ مِنَ
الأَوَّلِينَ} أي السابقون المقربون جماعة كثيرة من الأمم السالفة {وَقَلِيلٌ مِنَ
الآخِرِينَ} أي وهم قليلٌ من هذه الأمة، قال القرطبي: وسمُّوا قليلاً بالإِضافة
إِلى من كان قبلهم، لأن الأنبياء المتقدمين كانوا كثرة، فكثر السابقون إِلى
الإِيمان منهم، فزادوا على عدد من سبق إِلى التصديق من أمتنا، قال الحسن: سابقو من
مضى أكثر من سابقينا ثم تلا الآية وقيل: إِن المراد بقوله {وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ} أول هذه الأمة، والآخرون المتأخرون من هذه الأمة، فيكون كلا
الفريقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} أي جالسين على
أسَّرة منسوجة بقضبان الذهب، مرصَّعة بالدر والياقوت، قال ابن عباس: { مَوْضُونَةٍ}
أي مرمولة بالذهب يعني منسوجة به {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا} أي حال كونهم مضطجعين
على تلك الأسرَّة شأن المنعَّمين المترفين {مُتَقَابِلِينَ} أي وجوه بعضهم إلى بعض،
ليس أحد وراء أحد، وهذا أدخل في السرور، وأكمل في أدب الجلوس {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} أي يدور عليهم للخدمة أطفال في نضارة الصبا، لا يموتون ولا
يهرمون، قال أبو حيان: وُصفوا بالخلد - وإِن كان كل من في الجنة مخلداً - ليدل على
أنهم يبقون دائماً في سنِّ الولدان، لا يتحولون ولا يكبرون كما وصفهم جل وعلا
{بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} أي بأقداح كبيرة مستديرة لا عُرى لها {وَأَبَارِيقَ}
جمع إِبريق أي وبأباريق لها عُرى تبرق من صفاء لونها {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} أي
وكأسٍ من خمرٍ لذة جارية من العيون، قال ابن عباس: لم تعصر كخمر الدنيا بل هي من
عيون سارحة، قال القرطبي:والمعين الجاري من ماء أو خمر، غير أن المراد في هذا
الموضع الخمر الجارية من العيون، ليست كخمر الدنيا التي تستخرج بعصرٍ وتكلف معالجة
{لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي لا تتصدع رؤوسهم من شربها {وَلا يُنزِفُونَ} أي ولا
يسكرون فتذهب بعقولهم كخمر الدنيا، قال ابن عباس: في الخمر أربع خصال: السُّكرُ،
والصُّداع، والقيءُ، والبول، وقد ذكر تعالى خمر الجنة ونزَّهها عن هذه الخصال
الذميمة {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} أي ولهم فيها فاكهة كثيرة يختارون ما
تشتهيه نفوسهم لكثرتها وتنوعها {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي ولحم طيرٍ
مما يحبون ويشتهون، قال ابن عباس: يخطر على قلب أحدهم لحم الطير فيطير حتى يقع بين
يديه على ما اشتهى مقلياً أو مشوياً وفي الحديث (إنك لتنظر إِلى الطير في الجنة
فتشتهيه فيخر بين يديك مشوياً) قال الرازي: وقدَّم الفاكهة على اللحم لأن أهل الجنة
يأكلون لا عن جوع بل للتفكه، فميلهم إِلى الفاكهة أكثر كحال الشبعان في الدنيا
فلذلك قدمها {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي ولهم مع
ذلك النعيم نساء من الحور العين، الواسعات العيون، في غاية الجمال والبهاء، كأنهن
اللؤلؤ في الصفاء والنقاء، الذي لم تمسه الأيدي، قال ابن جزي: شبههن باللؤلؤ في
البياض، ووصفه بالمكنون لأنه أبعد عن تغيير حسنه، وحين سألت "أم سلمة" رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن هذا التشبيه قال "صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لم تمسه
الأيدي" {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي جعلنا لهم ذلك كله جزاءً لعملهم
الصالح في الدنيا .. ثم أخبر تعالى عن كمال نعيمهم في الجنة فقال {لا يَسْمَعُونَ
فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} أي لا يطرق آذانهم فاحشُ الكلام، ولا يلحقهم إِثمٌ
مما يسمعون، قال ابن عباس: لا يسمعون باطلاً ولا كذباً {إِلا قِيلاً سَلامًا
سَلامًا} أي إلا قول بعضهم لبعضٍ سلاماً سلاماً، يُحيي به بعضهم بعضاً ويفشون
السلام فيما بينهم، قال أبو حيّان: والظاهر أنه استثناء منقطع لأنه لم يندرج في
اللغو ولا في التأثيم، وقال أبو السعود: والمعنى أنهم يفشون السلام فيسلّمون سلاماً
بعد سلام، أو لا يسمع كلٌ منهم إِلا سلام الآخر بدءاً أو ردّاً.
أحوال أصحاب اليمين في الجنة
{وَأَصْحَابُ
الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ(27)فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ(28)وَطَلْحٍ
مَنْضُودٍ(29)وَظِلٍّ مَمْدُودٍ(30)وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ(31)وَفَاكِهَةٍ
كَثِيرَةٍ(32)لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ(33)وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ(34)إِنَّا
أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً(35)فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا(36)عُرُبًا
أَتْرَابًا(37)لأَصْحَابِ الْيَمِينِ(38)ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ(39)وَثُلَّةٌ
مِنَ الآخِرِينَ(40)}
سبب
النزول:
نزول الآية (27):
{وأصحاب اليمين ..}: أخرج سعيد بن
منصور في سننه والبيهقي في البعث عن عطاء ومجاهد قالا: لما سأل أهل الطائف الوادي
يُحمى لهم، وفيه عسل، ففعل، وهو واد معجب، فسمعوا الناس يقولون: في الجنة كذا وكذا،
قالوا: يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي، فأنزل الله: {وأصحاب اليمين ما أصحاب
اليمين، في سدر مخضود} الآيات.
نزول الآية
(29):
{وطلح منضود}: أخرج البيهقي من وجه آخر عن مجاهد قال: كانوا
يعجبون بوَجّ - واد مخصب في الطائف - وظلاله وطلحِه وسِدْرِه، فأنزل الله: {وأصحاب
اليمين، ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود}.
ثم
شرع في تفصيل أحوال الصنف الثاني وهم أصحاب اليمين فقال {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ
مَا أَصْحَابُ الْيَمِين}؟ استفهام للتعظيم والتعجيب من حالهم أي ما أدراك من هم،
وما هي حالهم؟ {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} أي هم تحت أشجار النبق الذي قطع شوكه، قال
المفسرون: والسِّدرُ: شجر النبق، والمخضود الذي خُضد أي قُطع شوكه، وفي الحديث: (أن
أعرابياً جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إن الله تعالى
ذكر في الجنة شجرة تؤذي صاحبها، فقال: وما هي؟ قال: السدر فإِن له شوكاً، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: أليس اللهُ يقول {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ}؟ خضَدَ اللهُ
شوكه فجعل مكان كل شوكةٍ ثمرة، وإِن الثمرة من ثمره تفتَّق عن اثنين وسبعين لوناً
من الطعام، ما فيها لونٌ يشبه الآخر) {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} هو شجر المود ومعنى
{مَنْضُودٍ} أي متراكم قد نُضد بالحمل من أسفله إِلى أعلاه {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} أي
وظل دائم باقٍ لا يزول ولا تنسخه الشمس، لأن الجنة ظل كلها لا شمس فيها {لا يرون
فيها شمساً ولا زمهريراً} وفي الحديث (إن في الجنة شجرةً يسير الراكب في ظلها مائة
عام لا يقطعها واقرءوا إن شئتم) {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} وقال الرازي: ومعنى
{مَمْدُودٍ} أي لا زوال له فهو دائم {أُكلُها دائم وظلُّها} أي دائم، والظلُّ ليس
ظل الأشجار، بل ظل يخلقه الله تعالى {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} أي وماءٍ جارٍ دائماً لا
ينقطع، يجري في غير أخدود، قال القرطبي: كانت العرب أصحاب بادية، والأنهار في
بلادهم عزيزة، لا يصلون إِلى الماء إِلا بالدلو والرشاء، فوعدوا بالجنة بأسباب
النزهة وهي الأشجار وظلالها، والمياه والأنهار وجريانها {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ *
لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} أي وفاكهةٍ كثيرة متنوعة، ليست بالقليلة العزيزة
كما كانت في بلادهم، لا تنقطع كما تنقطع ثمار الدنيا في الشتاء، وليست ممنوعة عن
أحد، قال ابن عباس: لا تنقطع إِذا جُنيت، ولا تتمنع من أحدٍ إِذا أراد أخذها وفي
الحديث (ما قُطعت ثمرةٌ من ثمار الجنة إِلا عاد مكانها أخرى) {وَفُرُشٍ
مَرْفُوعَةٍ} أي عالية وطيئة ناعمة وفي الحديث (ارتفاعها كما بين السماء والأرض،
ومسيرة ما بينهما خمس مائة عام) قال الألوسي: ولا تستبعد هذا من حيث العروجُ
والنزولُ، فالعالم عالم آخر فوق طور عقلك تنخفض للمؤمن إِذا أراد الجلوس عليها ثم
ترتفع به، والله على كل شيء قدير {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} أي خلقنا نساء
الجنة خلقاً جديداً، وأبدعناهن إِبداعاً عجيباً، قال في التسهيل: ومعنى إنشاء
النساء أن الله تعالى يخلقهن في الجنة خلقاً آخر في غاية الحسن بخلاف الدنيا،
فالعجوز ترجع شابة، والقبيحة ترجع جميلة، قال ابن عباس: يعني الآدميات العجائز
الشمط خلقهن الله بعد الكبر والهرم خلقاً آخر {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} أي
فجعلناهن عذارى، كلما أتاهنَّ أزواجهن وجدوهنَّ أبكاراً {عُرُبًا} جمع عروب وهي
المتحببة لزوجها العاشقة له، قال مجاهد: هنَّ العاشقات لأزواجهن المتحببات لهم
اللواتي يشتهين أزواجهن {أَتْرَابًا} أي مستويات في السنِّ مع أزواجهن، في سنّ
أبناء ثلاث وثلاثين، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (سألت النبي صلى الله عليه
وسلم عن قوله تعالى {إِنا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا
* عُرُبًا أَتْرَابًا} فقال يا أم سلمة: هنَّ اللواتي قُبضن في الدنيا عجائز،
شُمطاً، عُمشاً، رُمصاً، جعلهن الله بعد الكِبر أتراباً على ميلادٍ واحد في
الاستواء) وفي الحديث أن امرأة عجوزاً جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول
الله: أُدع الله أن يُدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان إِن الجنة لا تدخلها عجوز،
فولَّت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، فإِن الله تعالى يقول {إِنَّا
أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} {لأَصْحَابِ الْيَمِينِ}
أي أنشأنا هؤلاء النساء الأبكار لأصحاب اليمين ليستمتعوا بهنَّ في الجنة، ثم قال
تعالى {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} أي هم جماعة من
الأولين من الأمم الماضية، وجماعة من المتأخرين من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم،
قال أبو حيّان: ولا تنافي بين هذه الآية {وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} وبين الآية
التي سبقتها وهي قوله {وقليلٌ من الآخرين} لأن الثانية في السابقين فلذلك قال
{وقليل من الآخرين} وهذه في أصحاب اليمين ولذلك قال {وَثُلَّةٌ مِنَ
الآخِرِينَ}.